قسمة التركة (الورث) في السعودية: بين تعقيدات الماضي ومرونة الحاضر

فيلا مهجورة في حي النخيل..

صمتٌ يلف أرجاءها، وغبارٌ يُغطي أثاثها الفاخر. فيلا السيد “أبو خالد” – رحمه الله – تحولت إلى شاهدٍ صامت على خلافٍ مرير بين أبنائه.

لم يتخيل أحد أن تُصبح قسمة التركة سببًا في تفكك الأسرة، ولكن هذا ما حدث بالفعل! لقد تحولت القضية إلى معركة قضائية طويلة، استنزفت الوقت

والمال، والأهم من ذلك، هددت أواصر القرابة.

للأسف، قصة “أبو خالد” ليست استثناءً. فقضايا قسمة التركة تُعد من أكثر القضايا حساسيةً وتعقيدًا في المجتمع السعودي، وغالبًا ما تُؤدي إلى نزاعات

أسرية طويلة ومُكلفة. لكن، في ظل التطورات الكبيرة التي شهدتها المنظومة العدلية في المملكة، بات هناك أملٌ في حل هذه المنازعات بشكل أكثر سلاسة وعدالة.

قسمة التركة (الورث) في السعودية

 

ما الذي يُؤجج صراع الورثة؟

قد يعتقد البعض أن الجهل بأحكام الميراث في الشريعة الإسلامية هو المُسبب الرئيسي لهذه المنازعات. صحيحٌ أن الجهل يلعب دورًا، ولكن هناك عوامل أخرى لا تقل أهمية:

  • الطمع: رغبة بعض الورثة في الحصول على حصة أكبر مما يستحقونه شرعًا، مما يُخالف قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ﴾ [النساء: 11].

 

  • صعوبة تقسيم التركة: خاصةً إذا كانت تضم أصولًا مُعقدة مثل العقارات أو الشركات، وهنا يُمكن الاستعانة بما جاء في المادة (13) من لائحة قسمة الأموال المشتركة: “إذا اتفق الشركاء على قسمة أموالهم كتابةً أو شفاهةً في مجلس القسمة فإن الدائرة تُثبت اتفاقهم في محضر الجلسة ويُعد ذلك حُكمًا نهائيًا”.

 

  • الخلافات العائلية المُسبقة: التي قد تتفاقم مع وفاة المُورث، مما يُبرز أهمية حديث رسول الله ﷺ: “لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ” (متفق عليه).

 

  • غياب الوصية: التي تُنظم قسمة التركة وتُجنب الورثة الكثير من الخلافات، كما ورد في حديث رسول الله ﷺ: “مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ” (صحيح البخاري).

 

كيف تواجه المملكة هذه التحديات؟

سعت المملكة إلى تحديث منظومتها العدلية لتُواكب التغيرات الاجتماعية و الاقتصادية، و من أبرز جهودها في هذا المجال:

  • محاكم الأحوال الشخصية: لتسريع البث في قضايا قسمة التركة و ضمان وجود قضاة متخصصين، كما ورد في نظام المحاكم التجارية و الأحوال

 

  • الشخصية: “تختص المحاكم الابتدائية في الأحوال الشخصية بالنظر في الدعاوى و المنازعات الخاصة بالأسرة، ومنها قسمة التركات”.

 

  • الأنظمة الإلكترونية: لتسهيل إجراءات التقاضي و توثيق التركات، و تقليل الأخطاء و تسريع الإجراءات، مثل منصة “ناجز” التي تُقدم خدمات قضائية إلكترونية متنوعة.

 

  • الوساطة و الصلح: لتشجيع الحلول الودية و الحفاظ على أواصر الأسرة، كما ورد في نظام الإجراءات المدنية: “للمحكمة أن تُحيل الخصوم إلى الوساطة في أي مرحلة من مراحل التقاضي”.

 

  • تحديث الأنظمة و اللوائح: لسد الثغرات القانونية و توضيح الإجراءات للمواطنين، مثل لائحة قسمة الأموال المشتركة التي نظمت إجراءات قسمة التركة بشكل مُفصل.

ما الذي تغير؟

  • سرعة الفصل في القضايا: بفضل المحاكم المتخصصة و الأنظمة الإلكترونية، كما يتضح من إحصائيات وزارة العدل التي أظهرت انخفاضًا ملحوظًا في مدة تقاضي قضايا قسمة التركة.
  • شفافية الإجراءات: من خلال توفير معلومات دقيقة و واضحة عن التركات و حصص الورثة، عبر الأنظمة الإلكترونية مثل خدمة “حساب المواريث” على منصة “أبشر”.
  • تعزيز العدالة: من خلال وجود قضاة متخصصين يُصدرون أحكامًا أكثر إنصافًا، كما يتضح من توجه المحاكم إلى الاستعانة بخُبراء لتقييم الأصول و قسمتها بشكل عادل.
  • تشجيع الحلول الودية: من خلال تفعيل دور الوساطة و المصالحة، وقد أكدت وزارة العدل نجاح مراكز الوساطة في حل نسبة كبيرة من منازعات قسمة التركة ودّيًا.
  • هل انتهت جميع المشاكل؟

    لا شك أن التطورات إيجابية، لكن لا تزال هناك تحديات تتطلب المزيد من الجهود، مثل:

    • زيادة الوعي بأحكام الميراث: من خلال حملات توعية مكثفة وبرامج تعليمية مُبسطة، تُقدم بالتعاون مع الجامعات والمؤسسات الدينية، لتوضيح مبادئ قسمة التركة و أهمية الوصية.

     

    • تقييم الأصول المُعقدة: مثل الشركات العائلية والممتلكات الدولية، من خلال هيئات متخصصة ومعايير واضحة، مع الاستعانة بخُبراء في مجالات التقييم المالي و القانوني، لضمان قسمة عادلة و شفافة.

     

    • تعزيز التعاون بين الجهات الحكومية: لتسهيل حصر وتقييم التركات، من خلال منصة إلكترونية موحدة وبروتوكولات تعاون فعّالة، بحيث تُتيح للورثة الوصول إلى جميع المعلومات و الوثائق اللازمة بسهولة و يسر.

     

    • إثبات النسب في بعض الحالات: قد يتطلب استخدام التقنيات الحديثة مثل فحوصات DNA، مع وضع ضوابط شرعية و قانونية واضحة لضمان الحفاظ على الأنساب و حقوق الورثة.

     

    • التعامل مع الورثة المفقودين أو المتوفين في الخارج: من خلال قواعد بيانات واتفاقيات تعاون دولي، لتسهيل التواصل معهم و ضمان وصولهم إلى حقوقهم في الميراث.

     

    • منع إخفاء أموال التركة: من خلال عقوبات رادعة وآليات رقابة فعّالة، مثل تغليظ العقوبات على من يُثبت قيامه بإخفاء أو التصرف في أموال التركة دون وجه حق.

    ختامًا، قسمة التركة في السعودية تشهد مرحلة انتقالية مهمة. وبينما تُساهم التطورات الحديثة في تسهيل الإجراءات و تعزيز العدالة، يبقى التوعية و التعاون هما الركيزتان الأساسيتان لضمان حقوق الورثة و الحفاظ على أواصر الأسرة.

Scroll to Top